Monday, February 14

بلال فضل : كان يقيناً بالله

بدأت كتابة هذه الاصطباحة اليومية فى هذه الصحيفة بتاريخ 1 نوفمبر 2008، وكان هذا هو نص اصطباحتى الأولى:

«على وجه مصر سحابة سوداء خنقت البلاد وكبست على نفس العباد.

أناس من أولاد الحلال يقولون إنها طالت واستحكمت حلقاتها، لم تستمر سحابة سوداء فى العالم مدة 27 سنة، بينما يرى غيرهم أن «أكتر من كده وربك بيزيح»، آخرون يرون الأمل كالكذب خيبة لكنهم يضيفون من باب الدقة أن عمر تلك السحابة اللعينة هو 31 سنة كل سنة أسخم من التى قبلها وأرحم من التى تليها، بينما يحلف آخرون أكثر يأسا على المصحف والإنجيل أن تلك السحابة بلغت من العمر 56 سنة، وهى بذلك لديهم تجاوزت السن التاريخية للانقشاع وصارت قدرا لا فكاك منه.

لكلٍّ وجهة هو مُوَلّيها، أما أنا فأقسم لكم بحياة هذا الصباح الشريف، وحياة النعمة التى يحفى الفقير ليطولها، وحياة بحر إسكندرية الذى ما تمنيت قدامه أمنية وخذلنى، وحياة الأمهات اللواتى ما فَوّتن صلاة الفجر يوما على أمل حضور ساعة توزيع الأرزاق دون أن ييأسن أبدا من تأخر وصول الأرزاق، وحياة قصص الحب التى لم تنهزم على كوبرى قصر النيل أو فى نفق الزواج، وحياة خيال الأطفال وواقعية الآباء الذين لم تكسر قلة الحاجة هيبتهم، وحياة الزرع الأخضر الذى يرفض التطبيع مع المبيدات،

وحياة دوشة ماكينات الطعمية وهدير ماكينات غزل المحلة بعد إضراب ناجح، وحياة روائح الطبيخ وهى تسرى فى المناور التى لم تهزمها قماءة المواسير، وحياة شاى العصارى فى البلكونات النضيفة التى لم تبهدلها الكراكيب، وحياة صالات البيوت التى لم تخنقها الكآبة، وحياة نوادى الفيديو التى تعايشت مع زحف السيديهات واستمرت فى إسعاد المخنوقين، وحياة العيش البلدى المحمص إن استطعت إليه سبيلا، وحياة القهاوى الزحمة والأتوبيسات الرايقة فى المواقف والمواقف المحترمة المكتوبة بروقان،

وحياة غُنا منير وصوت أنغام ومزيكة عمار الشريعى وأفلام وحيد حامد ومسلسلات أسامة أنور عكاشة وشعر الأبنودى وتشخيص الفخرانى وقصص محمد المخزنجى ونقاء محمد السيد سعيد وسحر أحمد خالد توفيق وسخرية جلال عامر وسمانة أبوتريكة وعقل هيكل وحس علاء الديب فى الدنيا، وحياة عيال وبنات ساقية الصاوى وستة أبريل وكفاية ورسالة وزاد وفاتحة خير وجروبات الفيس بوك الذين قد لا يحبون بعضهم البعض مع إنهم كلهم على بعضهم يتحبوا لأن شكلهم يفرح حتى لو كان بعض كلامهم يضايق، وحياة المنفيين فى الأقاليم الذين ينتظرون أن يحل فرج الله على العاصمة، وحياة السكان الأصليين لمصر الذين يفضلون الغرق فى بلادهم على الغرق خارجها.

بلاش يا سيدى، وحياة ربنا المعبود الذى يحب الصابرين، إذا صبروا، أقسم لكم أن هذه السحابة السوداء التى كبست على نَفَس مصر ستغور، وأنه سيطلع علينا صباح لن نرى فيه هذه الوجوه الكريهة التى كانت تكذب أكثر مما تتنفس فصارت تكذب ولا تتنفس،

وأن مصر ستُرزق بصباح تستحقه وساسة على قد مقامها وأيام يمكن احتمالها وأكاذيب يمكن بلعها وفساد يمكن التعايش معه وتخلف له أول من آخر، وأنه سيأتى على مصر صباح يفوق فيه المصرى لنفسه ويتكسف على نفسه عندما يرى كيف أصبح حاله ويقرر ألا ينازع الخالق فى حكمه على البشر ويتفرغ لدوره الذى نسيه كمخلوق، صباح يصبح فيه ضرب مواطن فقير على قفاه ألعن من الخيانة العظمى، صباح يعيش فيه المصريون إما فقراء على القد دون أن يفقدوا الكرامة والستر، أو أغنياء على راحتهم دون أن يفقدوا الإحساس والضمير.

سيأتى هذا الصباح، أنا أضمن لكم ذلك برقبتى، وأنا رقبتى أكبر من أى سدادة تتخيلونها، لكننى للأمانة ولكى لا أخدعكم لا أضمن لكم متى سيأتى، ولا إذا أتى متى يمكن أن ينتهى فتداهمنا سحابة سوداء من جديد، أنتم تضمنون ذلك بأنفسكم ولأنفسكم، أما أنا فأعرف فقط أن ذلك الصباح سيأتى حتما ولزما، ومصر إذا شمت هواءه النضيف لن تفرط فيه أبدا.

ربنا كريم ومصر تستاهل».

لم تكن تلك الاصطباحة نبوءة بل كانت يقيناً بالله، وأحمد الله أن يقينى بالله وقانى من اليأس وعصمنى من الإحباط، وأشكر فضله لأننى عشت اللحظة التى انزاحت فيها سحابة مبارك السوداء من على وجه مصر، وأشعر بالفخر لأننى فعلت بعض ما علىّ من أجل إزاحة تلك السحابة، لقد كانت تلك الاصطباحة أول ما كتبته فى هذه الزاوية اليومية، وأشعر أنها تستحق أن تكون آخر ما أكتبه فيها، لكى أبدأ يوما ما كتابة جديدة لا تلتزم بالتواجد اليومى ولا تنشغل بالتعليق على الأحداث، أعلم أن قرارى سيغضب الكثيرين ممن أحبونى وساندونى، لكننى أؤمن بأن ثورة الخامس والعشرين من يناير يجب أن تكون ثورة على كل ما سبقها، ثورة حتى على طرق الكتابة التى كانت سائدة قبلها، مهما كانت تلك الكتابة جميلة أو نبيلة، عن نفسى سأتوقف بعض الوقت لأبحث عن طريق جديد وكتابة جديدة فى هذه الصحيفة، لم أحدد بعد ما ينبغى أن أفعله، لكننى أحمل بداخلى أفكارا كثيرة أريد صياغتها فنا وأدبا، فقط لكى لا تضيع الشحنة التى فجرتها بداخلى هذه الثورة المجيدة التى أعادت ولادتى من جديد، دعونى أصارحكم وأنتم لستم غرباء أننى أشعر بحاجة ملحة إلى برنامج تليفزيونى ثقافى يومى أشعر أن مصر تحتاجه الآن وبشدة، وأدعو كل من يرغب من مثقفى مصر وفنانيها إلى أن نتكاتف سويا من أجل تحقيق هذا البرنامج الآن وفورا.

حتى لو كانت هذه الاصطباحة ضاغطة على أعصابك لكننى لا أريد لها أن تنتهى بدون أن أرجو الأساتذة الكرام الدكتور حسن نافعة والأستاذة فاطمة ناعوت والأستاذ سمير فريد أن يقبلوا خالص اعتذارى إذا كنت قد أسأت إليهم بما كتبته يوما ما، ولعل ما يشفع لى أننى كنت أنطلق فيما كتبته من حسن نية لا من سوء طوية، للعلم ليس إلا كنت قد اعتذرت للأستاذ سمير فريد فى اصطباحة سابقة، وأعلنت محبتى وتقديرى للعديد من كتابات الأستاذة فاطمة ناعوت فى رسائل تليفونية، وقبلت رأس الدكتور حسن نافعة فى مظاهرة جمعة الشهداء أسفل كوبرى الدقى ونحن نغالب سويا الاختناق من قنابل مبارك المسيلة للدموع والمحفزة على الثورة.

قد أكون أسأت إلى آخرين لكننى لا أجد نفسى راغبا فى الاعتذار لهم لأننى مقتنع بكل ما كتبته عنهم حتى هذه اللحظة. أشكر من كل قلبى رئيس تحرير هذه الصحيفة الأستاذ مجدى الجلاد الذى تحمل العديد من المشاكل بسبب ما كنت أكتبه، وهى مشاكل ربما ستقرأ تفاصيلها فى اليوم الذى يقرر أن يكتب فيه مذكراته عن أزهى عصور الحريات، شكرا للمشرف الفنى المبدع الدكتور أحمد محمود وكل فريق سكرتارية التحرير الذين تحملوا عناء توزيع بقية عمودى على صفحات الصحيفة، شكرا لكل القراء الذين راسلونى بانتظام وعلقوا على ما كتبته وتحملوا حدتى فى الرد عليهم حيناً وتجاهلى لهم أحيانا، وهو تجاهل لم يكن وراءه والله إلا ضيق الوقت الذى يعلمه كل من تحمل عبء الكتابة اليومية.

شكرا لشباب مصر الذين جعلونى أشعر فى شوارع الثورة أن كلماتى كانت لها جدوى، شكرا لهم لأنهم فى يوم النصر المبين جعلونى أشعر بمشاعر عصية على الكتابة مات الكثير من أساتذتى دون أن يعيشوها، شكرا لكل الذين شاركونى فى ميدان التحرير قراءة الفاتحة على أرواح كل أساتذتى الذين تمنيت أن يشهدوا تلك اللحظات الخالدة فى عمر مصر، شكرا لصاحب الفضل الأول علىّ الأستاذ إبراهيم عيسى الذى أخرجنى من الظلمات إلى النور، شكرا لكل أساتذتى الذين تعلمت من أخطائهم وأصررت على تكرار بعضها، شكرا لكل أصدقائى الذين كادت محبتهم أن تفسدنى، شكرا لابنتىّ إيمى وعشق اللتين كنت أكتب من أجل أن تعيشا فى وطن أفضل، وأخيرا شكرا لزوجتى الحبيبة التى كانت أول شىء تمنيته من الله عز وجل، أما الأمنية الثانية فقد كانت أن أرى رئيسا سابقا لمصر، والحمد لله لم يبق لدى الكثير من الأمانى، حوالى 97 أمنية فقط، فأنا طماع وربنا كريم.

تحيا مصر.


No comments:

News